الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وهي سنة تسع وثمانين وستمائة. فيها كانت وفاة صاحب الترجمة الملك المنصور قلاوون في ذي القعدة حسب ما تقدم ذكره وتسلطن بعده ابنه الملك الأشرف خليل. وفيها توفي الشيخ الإمام أبو المعالي برهان الدين أحمد بن ناصر بن طاهر الحسيني الحنفي إمام المقصورة الحنفية الشمالية بجامع دمشق كان إمامًا عالمًا فاضلًا زاهدًا صالحًا متعبدًا مفتنًا مشتغلًا بما هو فيه من الاشغال بالعلم والأوراد والقراءة إلى أن مات في يوم السبت ثاني عشرين شوال وتولى بعده الإمامة الشيخ نجم الدين يعقوب البروكاري الحنفي وسلك مسلكه. وفيها توفي الأمير حسام الدين أبو سعيد طرنطاي بن عبد الله المنصور في الأمير الكبير كان أوحد أهل عصره كان عظيم دولة أستاذه الملك المنصور قلاوون وكان المنصور قد جعله نائبه بسائر الممالك وكان هو المتصرف في مملكته. فلما مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن ولده الملك الأشرف خليل استنابه أيامًا إلى أن رتب أموره ودبره ودبر أحواله وكان عظيم التنفيذ سديد الرأي مفرط الذكاء غزير العقل فلما رسخت قدم الأشرف في السلطنة أمسكه وكان في نفسه منه أيام والده وبسط عليه العذاب إلى أن مات شهيدًا وصبر على العذاب صبرًا لم يعهد مثله عصره إلى أن هلك ولما غسلوه وجدوه قد تهرأ لحمه وتزايلت أعضاؤه وأن جوفه كان مشقوقًا كل ذلك ولم يسمع منه كلمة. وكان بينه وبين الأمير علم الدين سنجر الشجاعي عداوة على الرتبة فسلمه الأشرف إلى الشجاعي وأمره بتعذيبه فبسط الشجاعي عليه العذاب أنواعًا إلى أن مات فحمل إلى زاوية الشيخ عمر السعودي فغسلوه وكفنوه ودفنوه بظاهر الزاوية . وكان له مواقف مع العدو وغزوات مشهورة وفتوحات. وبنى مدرسة حسنة بقرب داره بخط البندقانيين بالقاهرة وقبة برسم الدفن وله أوقاف على الأسرى وغيرها. وكان فيه محاسن لولا شحه وبذاءة لسانه لكان أوحد أهل زمانه وخلف أموالًا جمة. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: قال الشيخ تاج الدين الفزاري: حدثني تاج الدين ابن الشيرازي المحتسب: أنهم وجدوا في خزانة طرنطاي من الذهب العين ألفي ألف دينار وأربعمائة ألف دينار وألفي حياصة ذهب وألف وسبعمائة كلوته مزركشة ومن الدراهم ما لا يحصى فاستولى الأشرف خليل على ذلك كله وفرقه على الأمراء والمماليك في أيسر مدة واحتاج أولاد طرنطاي هذا وعياله من بعده إلى الطلب من الناس من الفقر. وقال غيره: وجد لطرنطاي ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. ثم ذكر أنواع الأقمشة والخيول والجمال والبغال والمتاجر ما يستحى من ذكره كثرة. ومات طرنطاي المذكور ولم يبلغ خمسين سنة من العمر. وفيها توفي الأمير علاء الدين طيبرس بن عبد الله الصالحي المعروف بالوزيري كان أحد الأمراء المشهورين بالشجاعة والإقدام وكان من المبرزين وله التقدم في الدول والوجاهة ولم يزل على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي العلامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي: خنق في المحرم وقد كمل التسعين. والإمام نور الدين علي بن ظهير بن شهاب بن الكفتي المقرئ الزاهد في شهر ربيع الآخر. وقاضي الحنابلة نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر في جمادى الأولى وله ثمان وثلاثون سنة. وخطيب دمشق جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي في سلخ جمادى الأولى. والزاهد فخر الدين أبو طاهر إسماعيل عز القضاة بن علي بن محمود الصوفي في رمضان. والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن الزين أحمد بن عبد الملك المقدسي في ذي القعدة. والسلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي في ذي القعدة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاث أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا ولم يوف في هذه السنة. سلطنة الملك الأشرف خليل هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي جلس على تخت الملك يوم وفاة أبيه في يوم الأحد سابع ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. وكان والده قلاوون قد سلطنه في حياته بعد موت أخيه الملك الصالح علي بن قلاوون في سنة سبع وثمانين وستمائة والمعتد به جلوسه الآن على تخت الملك بعد موت أبيه. وجدد له الأمراء والجند الحلف في يوم الاثنين ثامن في القعدة المذكور. وطلب من القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده فأخرجه إليه مكتوبًا بغير علامة الملك المنصور وكان ابن عبد الظاهر قد قدمه إليه ليعلم عليه فلم يرض وتقدم طلب الأشرف وتكرر وابن عبد الظاهر يقدمه إلى الملك المنصور والمنصور يمتنع إلى أن قال له: " يا فتح الدين أنا ما أولي خليلًا على المسلمين! " ومعنى ذلك أن الملك المنصور قلاوون كان قد ندم على توليته السلطنة من بعده. فلما رأى الأشرف التقليد بلا علامة قال: " لا فتح الدين السلطان امتنع أن يعطيني وقد أعطاني الله! " ورمى التقليد من يده وتم أمره ورتب أمور الديار المصرية وكتب بسلطنته إلى الأقطار وأرسل الخلع إلى النواب بالبلاد الشامية. وهو السلطان الثامن من ملوك الترك وأولاهم. ثم خلع على أرباب وظائفه بمصر والذين خلع عليهم من الأعيان: الأمير بدر الدين بيدرا المنصوري نائب السلطنة بالديار المصرية ووزيره ومدبر مملكته شمس الدين محمد بن السلعوس الدمشقي وهو في الحجاز الشريف وعلى بقية أرباب وظائفه على العادة والنواب بالبلاد الشامية يوم ذاك فكان نائبه بدمشق وما أضيف إليها من الشام الأمير حسام الدين لاجين المنصوري ونائب السلطنة بالممالك الحلبية وما أضيف إليها الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري ونائب الفتوحات الساحلية والأعمال الطرابلسية والقلاع الإسماعيلية الأمير سيف الدين بلبان السلحدار المعروف بالطباخي ونائبه بالكرك والشوبك وما أضيف إلى ذلك الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري صاحب التاريخ المعروف " بتاريخ بيبرس الدوادار " وصاحب حماة والمعرة الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور محمد الأيوبي. والذين هم تحت طاعته من الملوك صاحب مكة المشرفة الشريف نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسني وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر فهؤلاء الذين أرسل إليهم بالخلع والتقليد. انتهى. ولما رسخت قدم الملك الأشرف هذا في الملك أخذ وأعطى وأمر ونهى وفرق الأموال وقبض على جماعة من حواشي والده وصادرهم على ما يأتي ذكره. ولما استهلت سنة تسعين وستمائة أخذ الملك الأشرف في التجهز للسفر للبلاد الشامية وإتمام ما كان قصده والده من حصار عكا وأرسل إلى البلاد الشامية وجمع العساكر وعمل آلات الحصار وجمع الصناع إلى أن تم أمره خرج بعساكره من الديار المصرية في ثالث شهر ربيع الأول من سنة تسعين المذكورة وسار حتى نازل عكا في يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر ويوافقه خامس نيسان فاجتمع عنده على عكا من الأمم ما لا يحصى كثرة. وكان المطوعة أكثر من الجند ومن في الخدمة. ونصب عليها المجانيق الكبار الفرنجية خمسة عشر منجنيقًا منها ما يرمي بقنطار دمشقي وأكبر ومنها دونه. وأما المجانيق الشيطانية وغيرها فكثيرة ونقب عدة نقوب وأنجد أهل عكا صاحب قبرس بنفسه وفي ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانًا عظيمة لم ير مثلها فرحًا به وأقام عندهم قريب ثلاثة أيام ثم عاد عندما شاهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم ولم يزل الحصار عليها والجد في أمر قتالها إلى أن انحلت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم. هذا والحصار عمال في كل يوم واستشهد عليها جماعة من المسلمين. فلما كان سحر يوم الجمعة سابع جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحس عظيم مزعج فحال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلامية تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلا القليل ونهب ما وجد من الأموال والذخائر والسلاح وعمل الأسر والقتل في جميع أهلها وعصى الديوية والإسبتار واستتر الأرمن في أربعة أبراج شواهق في وسط البلد فحصروا فيها. فلما كان يوم السبت ثامن عشر الشهر وهو ثاني يوم فتح المدينة قصد جماعة من الجند وغيرهم الدار والبرج الذي فيه الديوية فطلبوا الأمان فأمنهم السلطان وسير لهم صنجقًا فأخذوه ورفعوه على برجهم وفتحوا الباب فطلع إليهم جماعة كثيرة من الجند وغيرهم. فلما صاروا عندهم تعرض بعض الجند والعوام للنهب ومدوا أيديهم إلى من عندهم من النساء والأصاغر فغلق الفرنج الأبواب ووضعوا فيهم السيف فقتلوا جماعة من المسلمين ورموا الصنجق وتمسكوا بالعصيان وعاد الحصار عليهم. وفي اليوم المذكور نزل من كان ببرج الإسبتار الأرمن بالأمان فأمنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على يد الأمير زين الدين كتبغا المنصوري وتم القتال على برج الديوية ومن عنده إلى يوم الأحد التاسع عشر من جمادى الأولى طلب الديوية ومن بقي في الأبراج الأمان فأمنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على أن يتوجهوا حيث شاؤوا. فلما خرجوا قتلوا منهم فوق الألفين وأسروا مثلهم وساقوا إلى باب الدهليز النساء والصبيان وكان من جملة حنق السلطان عليهم مع ما صدر منهم أن الأمير آقبغا المنصوري أحد أمراء الشام كان طلع إليهم في جملة من طلع فأمسكوه وقتلوه وعرقبوا ما عندهم من الخيول وأذهبوا ما أمكنهم أذهابه فتزايد الحنق عليهم وأخذ الجند وغيرهم من السبي والمكاسب ما لا يحصى. ولما علم من بقي منهم ما جرى على إخوانهم تمسكوا بالعصيان وامتنعوا من قبول الأمان وقاتلوا أشد قتال واختطفوا خمسة نفر من المسلمين ورموهم من أعلى البرج فسلم منهم نفر واحد ومات الأربعة. ثم في يوم الثلاثاء ثامن عشرين جمادى المذكورة أخذ البرج الذي تأخر بعكا وأنزل من فيه بالأمان وكان قد غلق من سائر جهاته. فلما نزلوا منه وحولوا معظم ما فيه سقط على جماعة من المسلمين المتفرجين ومضن قصد النهب فهلكوا عن آخرهم. ثم بعد ذلك عزل السلطان النساء والصبيان ناحية وضرب رقاب الرجال أجمعين وكانوا خلائق كثيرة. والعجب أن الله سبحانه وتعالى قدر فتح عكا في مثل اليوم الذي أخذها الفرنج فيه ومثل الساعة التي أخذوها فيها فإن الفرنج كانوا استولوا على عكا في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة في الساعة الثالثة من النهار وأمنوا من كان بها من المسلمين ثم قتلوهم غدرًا وقدر الله تعالى أن المسلمين استرجعوها منهم في هذه المرة يوم الجمعة في الساعة الثالثة من النهار ووافق السابع عشر من جمادى الأولى وأمنهم السلطان ثم قتلهم كما فعل الفرنج بالمسلمين فانتقم الله تعالى من عاقبتهم. وكان السلطان عند منازلته عكا قد جهز جماعة من الجند مقدمهم الأمير علم الدين سنجر الصوابي الجاشنكير إلى صور لحفظ الطرق وتعرف الأخبار وأمره بمضايقة صور. فبينما هو في ذلك لم يشعر إلا بمراكب المنهزمين من عكا قد وافت الميناء التي لصور فحال بينها وبين الميناء فطلب أهل صور الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلموا صور فأجيبوا إلى ذلك فتسلمها. وصور من أجل الأماكن ومن الحصون المنيعة ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فتح من الساحل بل كان صلاح الدين كلما فتح مكانًا وأمنهم أوصلهم إلى صور هذه لحصانتها ومنعتها فألقى الله تعالى في قلوب أهلها الرعب حتى سلموها من غير قتال ولا منازلة ولا كان الملك الأشرف في نفسه شيء من أمرها البتة. وعندما تسلمها جهز إليها من أخربها وهدم أسوارها وأبنيتها ونقل من رخامها وأنقاضها شيء كثير. ولما تيسر أخذ صور على هذه الصورة قوي عزم الملك الأشرف على أخذ غيرها. ولما كان الملك الأشرف محاصرًا لعكا استدعى الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب الشام وهو الذي تسلطن بعد ذلك حسب ما يأتي ذكره والأمير ركن الدين بيبرس المعروف بطقصو في ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى إلى المخيم وأمسكهما وقيدهما وجهزهما في بكره نهار الاثنين إلى قلعة صفد ومنها إلى قلعة الجبل. وكان تقدم قبل ذلك بستة أيام مسك الأمير سنجر المعروف بأبي خرص وجهزه إلى الديار المصرية محتاطًا عليه. ثم استقر الملك الأشرف بالأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري في نيابة الشام عوضًا عن الأمير لاجين المذكور. وعندما أمسك الأشرف هذين الأميرين الكبيرين حصل للناس قلق شديد وخشوا من حدوث أمر يكون سببًا لتنفيس الخناق عن أهل عكا فكفى الله تعالى ذلك. ثم أمسك الأشرف الأمير علم الدين أيدغدي الإلدكزي نائب صفد وما معها لأمر نقمه عليه وصادره وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحي العمادي وأضاف إليه مع ولاية صفد عكا وما استجد من الفتوحات الأشرفية. ثم لما فرغ الأشرف من مصادرة أيدكين المذكور ولاه بر صفد عوضًا عن علم الدين سنجر الصوابي ثم استدعى الملك الأشرف الأمير بيبرس الدوادار المنصوري الخطائي المؤرخ نائب الكرك وعزله وولى عوضه الأمير آقوش الأشرفي. ثم رحل الملك الأشرف عن عكا في بكرة نهار الاثنين خامس جمادى الآخرة ودخل دمشق يوم الاثنين ثاني عشره بعد أن زينت له دمشق غاية الزينة وعملت القباب بالشوارع من قريب المصلى إلى الباب الجديد وحصل من الاحتفال لقدومه ما لا يوصف ودخل وبين يديه الأسرى من الفرنج تحتهم الخيول وفي أرجلهم القيود ومنهم الحامل من سناجق الفرنج المنكسة وفيهم من حمل رمحًا علمه من رؤوس قتلى الفرنج فكان لقدومه يوم عظيم. وأقام الأشرف بدمشق إلى فجر نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رجب. وعاد إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين تاسع شعبان فاحتفل أيضًا أهل مصر لملاقاته احتفالًا عظيمًا أضعاف احتفال أهل دمشق وعند دخوله إلى مصر أطلق رسل صاحب عكا الذين كانوا معوقين بالقاهرة. ثم إن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي نائب الشام فتح صيدا بعد حصار كبير بالأمان في يوم السبت خامس عشر شهر رجب. ولما أخذت هذه البلاد في هذه السنة أمر السلطان أن تخرب قلعة جبيل وأسوارها بحيث يلحقها بالأرض فخربت أصلًا ثم أخذت عثليث بعد شهر. وأما أهل أنطرطوس لما بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب فجرد الأمير سيف الدين بلبان الطباخي عسكرًا فلما أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة أرواد وهي بالقرب منها فندب إليها السعدي بما كان أحضره من المراكب والشواني فأخلوها. وكان فتح هذه المدن الست في ستة شهور. ثم رسم الملك الأشرف بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادار فقبض عليه في شهر رمضان وجهز إلى الديار المصرية بعد أن أحيط على جميع موجوده ثم أفرج الملك الأشرف على جماعة من الأمراء ممن كان قبض عليهم وحبسهم وهم: الأمير لاجين المنصوري الذي تسلطن بعد ذلك وبيبرس طقصو الناصري وسنقر الأشقر الصالحي وبدر الدين بيسري الشمسي وسنقر الطويل المنصوري وبدر الدين خضر بن جودي القيمري وفي شهر رمضان سنة تسعين وستمائة المذكورة أنعم السلطان الملك الأشرف على علم الدين سنجر المنصوري المعروف بأرجواش خبزًا وخلع عليه وأعيد إلى ولاية قلعة دمشق ثم طلب الملك الأشرف قاضي القدس بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة إلى الديار المصرية وولاه قضاءها بعد عزل قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز. واستمر الملك الأشرف بالديار المصرية إلى أن تجهز وخرج منها قاصدًا البلاد الشامية في يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر من مدة إحدى وتسعين وستمائة وسار حتى دخل دمشق في يوم السبت سادس جمادى الأولى. وفي ثامن جمادى الأولى أحضر السلطان الأموال وأنفق في جميع العساكر المصرية والشامية. ووصل الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة لتلقي الملك الأشرف فالتقاه فزاد السلطان في إكرامه واستعرض الجيوش عليه وأمر بتسفيرهم قدام الملك المظفر المذكور. ثم توجه الملك الأشرف من دمشق بجميع العساكر قاصدًا حلب فوصلها في ثامن عشرين جمادى الأولى ثم خرج منها ونزل على قلعة الروم بعساكره وحاصرها إلى أن افتتحها بالسيف عنوة في يوم السبت حادي عشر شهر رجب وكتب البشائر إلى الأقطار بأخذها ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك بقلعة الروم الشجاعي وعساكر الشام ليعمروا ما انهدم منها في الحصار. وكان دخول السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان بعد أن عزل الأمير قرا سنقر المنصوري عن نيابة حلب بالأمير بلبان الطاخي وولى عوضًا عن الطباخي في الفتوحات طغريل الإيغاني. ولما كان السلطان بدمشق عمل عسكره النوروز كعادتهم بالديار المصرية وعظم ذلك على أهل دمشق لعدم عادتهم بذلك. وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعلى الأمير ركن الدين طقصو وهرب الأمير حسام الدين لاجين المنصوري ونادوا عليه بدمشق من أحضره فله ألف دينار ومن أخفاه شنق. ثم ركب الملك الأشرف ومماليكه في طلب لاجين المذكور وأصبح يوم العيد والسلطان في البرية مهجج وكانوا عملوا السماط كجاري العادة في الأعياد وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر وطلع الخطيب موفق الدين فصلى في الميدان بالعوام وعاد السلطان بعد صلاة العصر إلى دمشق ولم يقع للاجين على خبر. ثم سير الملك الأشرف طقصو وسنقر الأشقر تحت الحوطة إلى الديار المصرية. وأما لاجين فإن العرب أمسكوه وأحضروه إلى الملك الأشرف فأرسله الملك الأشرف مقيدًا إلى مصر. وفي سادس شوال ولى السلطان الأمير عز الدين أيبك الحموي نيابة دمشق عوضًا عن الشجاعي. ثم خرج الأشرف من دمشق قاصدًا الديار المصرية في ليلة الثلاثاء عاشر شوال وكان قد رسم الأشرف لأهل الأسواق بدمشق وظاهرها أن كل صاحب حانوت يأخذ بيده شمعة ويخرج إلى ظاهر البلد وعند ركوب السلطان يشعلها فبات أكثر أهل البلد بظاهر دمشق لأجل الفرجة! فلما كان الثلث الأخير من الليل ركب السلطان وأشعلت الناس الشموع فكان أول الشمع من باب النصر وآخر الوقيد عند مسجد القدم لأن والي دمشق كان قد رتبهم من أول الليل فكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها. وسافر السلطان حتى دخل الديار المصرية يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة من باب النصر وخرج من باب زويلة واحتفل أهل مصر لدخوله احتفالًا عظيمًا وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا. ولما أن طلع السلطان إلى قلعة الجبل أنعم على الأمير قرا سنقر المنصوري المعزول عن نيابة حلب بإمرة مائة فارس بديار مصر. ثم أفرج عن الأمير حسام الدين لاجين المنصوري وأعطاه أيضًا خبز مائة فارس بديار مصر وسببه أن السلطان عاقب سنقر الأشقر وركن الدين طقصو فاعترفوا أنهم كانوا يريدون قتله وأن لاجين لم يكن معهم ولا كان له اطلاع على الباطن فخنقهم وأفرج عن لاجين بعد ما كان وضع الوتر في حلقه لخنقه فضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا المنصوري نائب السلطان وعلم الدين سنجر الشجاعي وغيرهما. قلت وسنقر الأشقر هو الذي كان تسلطن بدمشق في أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون ووقع له معه تلك الأمور المذكورة في عدة أماكن. وأما لاجين هذا فهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقب بالملك المنصور حسب ما يأتي ذكره. وكلما ذكرنا من حينئذ لاجين فهو المنصور ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك. ثم إنهم أخرجوا الأمراء المخنقين وسلموهم إلى أهاليهم وكان السلطان خنق معهما ثلاثة أمراء أخر فأخرجوا الجميع ودفنوا ثم غرق السلطان جماعة أخرى وقيل إن ذلك كان في مستهل سنة اثنتين وتسعين وستمائة. واستمر السلطان بمصر إلى أن تجهز وخرج منها إلى الشام في جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة المذكورة وسار حتى دخل دمشق في يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة ونزل بالقصر الأبلق من الميدان الأخضر. ولما استقر ركابه بدمشق شرع في تجهيز العساكر إلى بلاد سيس والغارة عليها فوصل رسل صاحب سيس بطلب الصلح ورضا السلطان عليه ومهما طلب منه من القلاع والمال أعطاه وشفع الأمراء في صاحب سيس واتفق الحال على أن يتسلم نواب السلطان من صاحب سيس ثلاث قلاع وهي: بهسنا ومرعش وتل حمدون ففرح الناس بذلك لأنه كان على المسلمين من بهسنا أذى عظيم. وأقام السلطان بدمشق إلى مستهل شهر رجب توجه منها وصحبته عسكر الشام والأمراء وبعض عساكر مصر. وأما الضعفاء من عسكر مصر فأعطاهم السلطان دستورًا بعودتهم إلى الديار المصرية. وسار السلطان حتى وصل إلى حمص ثم توجه منها إلى سلمية مظهرًا أنه متوجه إلى ضيافة الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل وكان خروج السلطان من دمشق في ثاني شهر رجب فلما كان بكرة يوم الأحد سابع شهر رجب وصل الأمير لاجين وصحبته مهنا إلى دمشق وهو مقبوض عليه أمسكه السلطان لما انقضت الضيافة وولى عوضه شخصًا من أولاد عمه وهو الأمير محمد بن علي بن حذيفة. وفي بقية النهار وصل السلطان إلى دمشق ورسم للأمير بيدرا أن يأخذ بقية العساكر ويتوجه إلى مصر وأن يركب تحت الصناجق عوض السلطان وبقي السلطان مع خواصه بدمشق بعدهم ثلاثة أيام ثم خرج من دمشق في يوم السبت ثالث عشر رجب وعاد إلى جهة الديار المصرية في العشر الأخير من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين وستمائة. ثم إن السلطان أمر الأمير عز الدين أيبك الحموي الأفرم أمير جاندار نائب الشام أن يسافر إلى الشوبك ويخرب قلعتها فكلمه الأفرم في بقائها فانتهره وسافر من يومه وتوجه الأفرم إلى الشوبك وأخربها غير القلعة. وكان ذلك غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير وكان أخرب قبل ذلك أيضًا عدة أماكن بقلعة الجبل وبقلعة دمشق أيضًا أخرب عدة قاعات ومباني هائلة. وأما قلاع السواحل فأخرب غالبها وكان يقصد ذلك لمعنى يخطر بباله. ثم في العشرين من ذي الحجة نصب السلطان ظاهر القاهرة خارج باب النصر القبق وصفة ذلك أن ينصب صار طويل ويعمل على رأسه قرعة من ذهب أو فضة ويجعل في القرعة طير حمام ثم يأتي الرامي بالنشاب وهو سائق فرسه ويرمي عليه فمن أصاب القرعة وطير الحمام خلع عليه خلعة تليق به ثم يأخذ القرعة وكان ذلك بسبب طهور أخي الملك الأشرف وهو الملك الناصر محمد بن قلاوون وطهور ابن أخيه الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح علاء الدين علي بن قلاوون فاحتفل السلطان لطهورهما وعمل مهمًا عظيمًا. وكان الطهور في يوم الاثنين ثاني عشرين ذي الحجة. وعندما طهروهم رموا الأمراء الذهب لأجل النقوط فإن كان الأمير أمير مائة فارس رمى مائة دينار وإن كان أمير خمسين فارسًا رمى خمسين دينارًا وقس على ذلك سائر الأمراء ورمى حتى مقدمو الحلقة والأجناد فجمع من ذلك شيء كثيرة ثم بعد فراغ المهم بمدة يسيرة نزل السلطان الملك الأشرف المذكور من قلعة الجبل متوجهًا إلى الصيد في ثاني المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وصحبته وزيره الصاحب شمس الدين بن السلعوس ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا وجميع الأمراء فلما وصل إلى الطرانة فارقه وزيره ابن السلعوس المذكور وتوجه إلى الإسكندرية. وأما السلطان فإنه نزل بالحمامات لأجل الصيد وأقام إلى يوم السبت ثاني عشر المحرم فلما كان قرب العصر وهو بأرض تروجة حضر إليه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة ومعه جماعة كثيرة من الأمراء وكان السلطان بكرة النهار قد أمره أن يأخذ العسكر والدهليز ويمشي عوضه تحت الصاجق وأن يتقدمه ويبقى السلطان يتصيد وحده بقية يومه ويعود العشية إلى الدهليز فتوجه بيدرا على ذلك وأخذ السلطان الملك الأشرف يتصيد ومعه شخص واحد يقال له شهاب الدين الأشل أمير شكار وبينما السلطان في ذلك أتاه هؤلاء: بيدرا ورفقته فأنكر السلطان مجيئهم وكان في وسط السلطان بند حرير وليس معه نمجة لأجل الصيد وكان أول من ابتدره الأمير بيدرا فضربه بالسيف ضربة قطع بها يده مع كتفه فجاء الأمير حسام الدين لاجين وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدة وقال لبيدرا: يا نحس من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته ثم ضربه على كتفه فحلها ووقع السلطان على الأرض جاء بعدهما الأمير بهادر رأس نوبة وأخذ السيف ودسه في دبره وأطلعه من حلقه وبقي يجيء واحد من الأمراء بعد واحد ويظهرون ما في أنفسهم منه ثم تركوه في مكانه وانضموا على الأمير بيدرا وحلفوا له وأخذوه تحت الصناجق وركبوا سائرين بين يديه طالبين القاهرة. وقيل في قتله وجه آخر. قال القطب اليونيني: " ومما حكى لي الأمير سيف الدين بن المحفدار كيف كان قتل السلطان الملك الأشرف خليل قال: سألت الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار السلطان كيف كان قتل السلطان الأشرف فقال ابن الأشل: بعد رحيل الدهليز يعني مدورة السلطان والعساكر جاء إليه الخبر أن بتروجة طيرًا كثيرًا فقال السلطان: امش بنا نسبق الخاصكية فركبنا وسرنا فرأينا طيرًا كثيرًا فرماه السلطان بالبندق فأصرع شيئًا كثيرًا ثم إنه التفت إلي وقال: أنا جيعان فهل معك شيء تطعمني فقلت: والله ما معي سوى فروجة ورغيف خبز قد ادخرته لنفسي في صولقي فقال لي: ناولني إياه فأخذه وأكله جميعه ثم قال لي: أمسك لي فرسي حتى أنزل وأريق الماء فقلت له: ما فيها حيلة! أنت راكب حصانًا وأنا راكب حجرة وما يتفقوا فقال لي: انزل أنت واركب خلفي وأركب أنا الحجرة التي لك والحجرة مع الحصان تقف قال: فنزلت وناولته لجام الحجرة ثم أني ركبت خلفه ثم إن السلطان نزل وقعد يريق الماء وشرع يولغ بذكره ويمازحني ثم قام وركب حصانه ومسك لي الحجرة ثم إني ركبت. فبينما أنا وإياه نتحدث وإذا بغبار عظيم قد ثار وهو قاصد نحونا فقال لي السلطان: سق واكشف لي خبر هذا الغبار قال: فسقت وإذا الأمير بدر الدين بيدرا والأمراء معه فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردوا علي جوابًا ولا التفتوا إلى كلامي وساقوا على حالهم حتى قربوا من السلطان فكان أول من ابتدره بيدرا بالضربة قطع بها يده وتمم الباقي قتله " انتهى.
|